الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
أهل اليمن ككثير من المسلمين يتميَّزون بحب العلم وطلبه، وقد مدحهم النبي بخصائص كان لها أكبر الأثر في خصوصية التفوق العلمي عندهم.
نفتح اليوم نافذة الحضارة على مدينة عظيمة من مدن الإسلام، وهي في الواقع أقدم من الإسلام. يقال أسِّست في القرن الخامس قبل الميلاد، فهي قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، وكانت مشهورة عند العرب، ولكن زادت شهرتها في الدنيا بعد اعتناق أهلها للإسلام.
هذه هي مدينة صنعاء عاصمة اليمن، ومدينة صنعاء من المدن المهمة منذ قديم، بل اهتم بها رسول الله، وذكرها في أحاديثه، وبشَّر بوصول الإسلام إليها؛ فقال في حديث البخاري عن خباب: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ". واستخدمها لتقدير عرض حوضه يوم القيامة؛ فقال في حديث البخاري ومسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ اليَمَنِ..»، وغير ذلك.
الملمح الحضاري المهم الذي نفتح عليه النافذة اليوم هو ملمح مجالس العلم في صنعاء، وأهل اليمن ككثير من المسلمين في الأقطار المختلفة يتميَّزون بحب العلم وطلبه، ولكن مدحهم النبي بخصائص كان لها أكبر الأثر في خصوصية التفوق العلمي عندهم. روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ..»، وفي لفظ: "الْفِقْهُ يَمَانٍ". فعندهم رقة القلب التي تدفع للتأثر بما يُتَعلَّم، وعندهم عمق الإيمان الذي يدفع إلى اليقين بما يعلمون، وعندهم الحكمة التي تدفع إلى فهم ما بين السطور، وفقه المعاني.
هذه الخصائص دفعتهم على الرحلة في طلب العلم والدين: روى البخاري عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ، قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ»». جاءوا للتفقه في الدين، وليس لمجرد الإسلام، ولم يسألوا عن أشياء عادية، وكان ردُّ الرسول عليهم عميقًا، ومناسبًا لعمق تفكيرهم.
والملمح الحضاري الذي نلتقطه اليوم هو أنه كما رحل أهل اليمن لطلب العلم، رحل الناس بعد ذلك إلى اليمن لطلب علمهم وفقههم، ونأخذ مثالًا على ذلك رحلة طلبة العلم، بل العلماء، لطلب العلم في صنعاء على يد العالم الجليل عبد الرزَّاق الصنعاني.
والرحلة في طلب العلم ملمح أصيل من ملامح الحضارة الإسلامية. روى مسلم: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ «.. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ..». لذا اشتهر علماء الإسلام بالرحلة في طلب العلم، وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ طَلَبَ الْعِلْمَ تَرَى لَهُ أَنْ يَلْزَمَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ، فَيَكْتُبُ عَنْهُ أَوْ تَرَى أَنْ يَرْحَلَ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعِلْمُ فَيَسْمَعُ مِنْهُمْ؟، قَالَ: يَرْحَلُ يَكْتُبُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِينَ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ يُشَامُّ النَّاسَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ". قال أحمد بن حنبل هذا الكلام وطبَّقه، ورحل إلى صنعاء العلم ليتعلَّم على يد عبد الرزَّاق الصنعاني.
وعبد الرزَّاق الصنعاني هو أبو بكر عبد الرَّزَّاق بن همام بن نافع الصنعانيُّ الحِمْيَرِيُّ اليمنيُّ. وُلِد سنة 126هـ، وتُوُفِّي سنةَ 211 هـ، وكان عمره 85 سنة. وحدَّث عن ابن جريج، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وإسرائيل بن يونس، ومالك بن أنس، ووالده همام، وخلق سواهم، وقال ابن حبان في وصف أبيه همام بن نافع: والد عبد الرزاق بن همام، من خيار أهل اليمن وعبادهم، حجَّ ستين حجة، وكان طاهر العبادة، من مؤلفاته: الجامع الكبير والسنن، وتفسير القرآن والمُصنَّف وهو في أحد عشر جزءًا.
وقد رحل إلى صنعاء الكثير من العلماء ليتعلَّموا على يد عبد الرزَّاق الصنعاني: قال الطيب بامخرمة في قلادة النحر: «الحافظ العلامة المرتحل إليه من الآفاق». و«قال أبو سعد ابن السمعاني: قيل ما رحل الناس إلى أحد بعد رسول الله r مثل ما رحلوا إليه»، وممن ارتحل إليه: أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق الكوسج، ومحمد بن يحيى، ومحمد بن رافع.. وغيرهم الكثير. وأراد البخاري الرحلة إلى اليمن ليسمع منه فلم يُقدَّر له ذلك، فسمع علمه من تلميذه يحيى بن جعفر البيكندي.
وقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: مَا كَانَ فِي قَرْيَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِئْرٌ، فَكُنَّا نَذهَبُ نُبَكِّرُ عَلَى مِيْلَيْنِ نَتَوَضَّأُ، وَنَحمِلُ مَعَنَا المَاءَ. وقَالَ أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ: لَمَّا قَدِمَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، رَأَيْتُ بِهِ شُحُوباً بِمَكَّةَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ عَلَيْهِ النَّصَبُ وَالتَّعَبُ، فَكَلَّمْتُه، فَقَالَ: هَيِّنٌ فِيْمَا اسْتَفَدنَا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
وقد اتُّهم عبد الرزاق بأن فيه بعض التشيع، وأنه يفضل عليًّا على الشيخين، قال ابن عدي في (الكامل): "نسبوه إلى التشيع، ولكن اعتقاده وكلامه يخالف هذا الزعم". وقال أحمد بن صالح المصري: "قلت لأحمد بن حنبل: رأيت أحدًا أحسن حديثًا[1] من عبد الرزاق؟ قال: لا"[2].
[1] أحسن حديثًا: أي في اتقان رواية الحديث.
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك